الأحد، 10 أكتوبر 2010

تداعيات



نظرت في دولاب ملابسها لتتخير الطقم المناسب لحضور حفل  الأوبرا الموسيقي ولأنها لا تحب السواريهات وتحب الملابس الرسمية تخيرت تاييرا أسود لأن الأسود ملك الموضة كما يقولون أو ربما لأنه يضفي وقارا أو ربما لأنه فرض سطوته على هذه الأيام . ارتدت ملابسها وسارت كالنيام تجاه الأوبرا وجدت الجميع في أبهى حللهم الرسمية جلست في مقعدها , بعد دقائق بدأت السيمفونية , تتعالى أصوات الآلات الموسيقية تارة وتنخفض تارة , أتاها صوت كطرقات الباب دخلت إلى حجرتها بالجريدة تلقاها الجميع بالقفشات الساخرة أحدهم قال : - أهلا بالمرأة الحديدية.
أجابته بابتسامة وتعجب : - حديدية!
فأكمل آخر : - حديدية العقل .
أكملت : - رغم أن الكلام ينطوي على مدح أو ذم إلا أنني سآخذ بالمعنى الحسن.
في هذه الأثناء دخل زميلهم المصور مندفعا داخل الحجرة وعلى وجهه علامات الغضب والحزن وقال :
-         لقد اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان هل رأيتم الأحداث.
تلاشت الإبتسامات ونظر الجميع إلى بعضهم البعض وخيّم الصمت ربما لأن الجميع قد سئموا الكلام أو تعودوا الأحداث.
ترتفع أصوات الألآت وكأنها ملاعق وشوك وسكاكين تصطدم بالأطباق في المطعم حيث تتناول غدائها كان يجول بخاطرها أشياء كثيرة فلم تلاحظ زميلها المصور وهو يجلس أمامها على نفس المنضدة إلا بعد أن حرك كفه جيئة وذهابا أمام عينيها وهو يقول : - أين ذهبت . . ما كل هذا الشرود؟
- منذ متى وأنت هنا .    سألته بإندهاش
نظر في ساعته وقال بإبهام : - منذ وقت . . ولكن أين كل هذا الشرود؟
سألته بإهتمام : - إذا سألتك عن شيء هل ستصدقني القول دون خوف أو اإحراج؟
-         منذ عملت هنا وأنا اعلم مدى حبك للصدق وعدم خجلك منه , أعدك أن أجيبب صدق.
-         هل تجد فيما اكتب شيئا نافعا.
نظر إليها في ذهول فهو لا يدري ماذا يعني هذا السؤال  الأن بعد كل هذا النجاح لماذا تسأل الأن.
-         لماذا لم تجب ؟ هل هذا السؤال صعب إلى هذا الحد .
-         بل أسهل مما تتخيلي فهناك من ينتظر مقالك بالإسم ويتابع ما تكتبينه بإهتمام و. . .
قالت بعصبية : - إذاً لماذا لا يتغير أي شيء . . كل شيء كما هو لماذا . . .
-         اسمعيني جيدا . . قد تختلف الصورة عن الكلمة ولكن أنت تكتبين ما تشعرينه . . والكلمة النابعة من الإحساس تختلف كثيرا عن باقي الكلمات .
نظرت إلى الطبق الذي أمامها وأدارت الشوكة فيه وقالت بشرود : - لماذا الطيور في بلادنا أعشاشها مظلمة وأصواتها حزينة وأيامها ليل دائم.
لم يدر ماذا يقول ورفعت عينيها الشاردة وقالت : - احتاج لمصور معي في لبنان . ...أتوافق ؟
بمثل الإندفاع الذي دخل به الحجرة في الجريدة وافق.
أصوات الموسيقى تأخذها في دوامة كمحرك طائرة تودع الأرض لتعلو وتعلو . . .
-         تخافين ركوب الطائرات.
-         خفت أشياء كثيرة إلى أن أصبحت أخاف الخوف نفسه .
-         مستحيل المرأة الحديدية تخاف.
-         المرأة الحديدية . . . أين هذا الحديد؟
-         هل لي الأمان إذا أخبرتك؟
-         كيف أمنحك مالا أملكه؟!
-         حسنا . . رغم عبارات الإطراء الكثيرة واهتمام كثيرين بك إلا أن الجميع يصيب منك ما تصيبه قطرات الندى من الصخور . . . وسألت نفسي كثيرا ألم تشعري بهم أم ماذا؟
ابتسمت ابتسامة خفيفة وأغمضت عينيها.
تتوالى الأصوات وترتفع وكأنها تعلن عن حدث هام في السيمفونية وكذلك أصوات القنابل والصواريخ تهدم وتقتل وتشعل نيرانا في كل مكان ويفر الجميع من الجحيم وتقتحمه هي والمصور ويلتقط هو الصور ليوثق بها شهادات كثيرة أولها الموت وتحاول هي أن تتحدث مع الناس الثكالى والأيتام والأرامل وتسأل الأشلاء فتجيب بصمت أبلغ من الحديث.
فجأة تخفت الموسيقى بالكاد تسمع , هدوء مؤقت يعم الفندق تتعجب من نفسها تحب الهدوء وتخشاه لما ينذر به وتحب الضوضاء وتخشاها لما تحمله معها .
تحاول أن تخرج ما برأسها على الأوراق فيغشاها النعاس .
كعادة السيمفونيات ترتفع موسيقاها فجأة تستيقظ على طرقات الباب ويدخل المصور يجدها أمام منضدة صغيرة وأمامها الأوراق ويسألها : - تكتبين مقالا . . أليس كذلك؟
هزت رأسها إيجابا يكمل : - هلمي معي أريك شيئا.
وفي نزهة رائعة لا يصدق أحد أنه على بعد كيلومترات هناك حرب دائرة يريها طبيعة خلابة جبال وخضرة ومياه .
تقول بهدوء : - وبضدها تتميز الأشياء . . حذار أن ترسل صور هذا المكان مع مقالي .. إنه الجنون بعينه.
-         ألا ترين أن هناك جنون بالفعل؟!
-         ترى كم من البشر يستطيعون الإنعزال في هذا المكان.
-         جمعية لحقوق الإنسان في مكان جميل.
-         تسخر؟ . . . كم نعبث نحن بكل شيء.
-         ما هذه النبرة التي في صوتك ماذا حدث ؟
-         شيئان.
سألها وهو يضع يديه في خصره كالأطفال : - ما هما؟
-         الأول شيء بداخلي يدفعني لأجيب على تعليقك في الطائرة وهوإنني ابحث عن شيء محدد . . هدف أعرف كل جوانبه فلا يستوقفني أي شيء في طريقي من إعجاب أو إكبار. . ولكن أنا إنسانة.
نظر إليها بتفحص وسألها : - والثاني؟
-         حلم.
أكمل هو قائلا : - تريدين تحقيقه.
    - لا أرجوك.
وجد في نبرتها رعبا ليس له حدود وكأنها تعتب عليه أن قال هذه الجملة فقال لها :
-         آسف . . . ولكن ما هذا الحلم؟
-         البارحة رأيت أني في وسط نيران كثيرة من كل مكان أصرخ وأدور حول نفسي فلا أجد أحدا وصوت النيران يعلو فوق صوتي وفجأة بترت ذراعي اليمنى والدم ينفجر مني والنيران حولي وصوتي لا يسمعه أحد.
صمتت أما هو فكان يريد أن يحتضنها بقوة لكنه لا يستطيع لقد احكمت سجنها بنفسها فأدار ظهره لظهرها وبعد لحظات صمت قال : - إنه مجرد حلم.
استدارت لتقابل وجهه وقالت : - ولكني اشعر بإنقباضة لا تفارقني منذ الصباح .
ابتسم لها قائلا : - ربما لتغيير المكان أو بؤرة الأحداث . . هيا بنا نعود إلى الفندق قبل أن تحلمي أنك في الجنة.
وهما بالحجرة . . همّ بالإنصراف , تعالى صوت الطبلة كإيقاع قلب خائف كان قلبها يرتجف . . كانت لا تدري ما هو مصدر الخطر الذي يدفعها لهذا الجنون استوقفته سألته : - إلى أين تذهب؟
   - ساصطحب الكاميرا ونجوب الشوارع.
بصوت فيه خوف من القادم صرخت : - لا . . لاتخرج؟
تعجب من موقفها وكل مواقفها تثير العجب وقال : - لماذا؟
-         لا أدري فقط لا تخرج.
-         هل ستفرضين حظرا للتجول بسبب حلم؟!
طأطأت رأسها وتركته ينصرف
يتسرب إليها صوت رفيع . . ويرن هاتف الحجرة . . زميلها المصور الآن يرقد في المستشفى القريب من الفندق تهرول . . الحلم يراودها  . . تدخل الحجرة التي يرقد فيها المصور . . لم تتبين ملامحه فجسده تملؤه الحروق ويحتضن كاميرته تقترب منه يقول بصوت واهن : - الحمد لله لم تحترق الكاميرا .. لقد صورت كل شيء. . اردت أن أهديك شيئا . . فدفعت أغلى ثمن في هذه الهدية احتفظي بها و . . .
وتفيق على التصفيق الحاد والإعجاب بالسيمفونية وينتهي العرض وتمسح الدموع على وجنتيها وتمضي.
-----------------
ابداع
نجلاء غانم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Copyright © ثقف نفسك-أبداعات الاعضاء. All rights reserved.
ثقف نفسك created by Almowhed Designed by Almowhed